من يُقيِّمُ مَن.. و مَن يَحُكم على مَن؟ نحو إسقاط ديكتاتورية الجامات ؟

من يقرر أن هذا المضمون أو ذاك مهم أو رديء؟ مَنْ يَحكُم على مَن ؟ ومَن يُقيِّم مَن ؟ أسئلة مُلِحّة تطرح في السنوات الاخيرة على المشهد الرقمي و صناعة المحتوى ليس في الجزائر فحسب بل في عدد من الدول ممن فرضت الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة تَوَجُّه العامة نحو شبكات التواصل الاجتماعي مستثمرة فيما تُتِيحُهُ من إمكانيات التواصل مع الآخر والتعبير عن الرأي والانخراط في النقاش العام.
زمن رقمي صعب!
من له سلطة أو صلاحية أو أحقية تقييم المضامين الرقمية على اختلاف أجناسها وأصحايها ومواضيعها؟ قد تثير هذه الأسئلة السُخطَ لدى البعض وقد يعتبرها بعضٌ آخَر اعتداء على حرية التعبير والرأي، وقد يرَاهُ بعضٌ ثالٍث محاولة لتنصيب أوصياءَ على الناس أو حُرَاَس معَابِد يُحَدِدون الصحّ من الغلط والغثِّ من السّمين!
يغدو السؤال ” مَن يُقَّيِم من ؟ ” أي من له الكفاءة والاهلية العلمية لتحديد أهمية أو رداءة المضامين الرقمية أكثر من ملّح في هذا الزمن الرقمي الصعب الذي بدأت أصوات تتعالى هنا وهناك للتنديد بتفاهة بعضها و التزييف الحاصل في بعضها الآخر و التأثير السلبي لها على عقول المتلقين من مختلف الأعمار دون اعتبار للخصوصية وقيم المجتمع، ولهذا السبب أطلقت منصة أستغرام في جويلية 2019 تجربة مُحَدَدة في الزمن تتمثل في اختبار طريقة جديدة في منح اللايكات أو الجامات للمضامين التي يَعرِضُها المُستَخدِمون وهذا كرد فعل على التأثير السلبي لما أسمته ” ديكتاتورية اللايك” ( Dictature du Like ) ” على الصحة العقلية والنفسية لرواد التواصل الإجتماعي . لقد استقبل خبراء علم الاجتماع والنفس في الغرب هذا الاختبار بفرح كبير وصفقوا له بحرارة .
جامات .. و ضغط مستمر !!
الطريقة المقترحة آنذاك من منصة استغرام* هي حجب اللايكات أو الجامات التي يضعها الرواد على المضامين، أيّا كان صاحبها أو موضوعها، على أن يتم الاحتفاظ بعدد الجامات في خوارزمية ( Algorithme ) حساب المستخدم لاستعمالها لاحقا في دراسات تحليلية تتصل بقياس التأثير أو ليطلّع عليها المستخدم نفسه لمعرفة عدد المهتمين بما نشر و لكن دون إمكانية كشفها للمتابعين. لقد طبقت التجربة في 6 دول غربية هي كندا و استراليا و نيوزيلاندا والبرازيل واليابان و إيرلندا و إيطاليا و لا يوجد إلى اليوم تقارير تتحدث عن نتائج هذه التجربة ، ما الذي غيرته وهل كانت حقا إيجابية على عقلية ونفسية الرواد؟
المؤكد اليوم أن (الجامات) صارت فعلا تشكّل ديكتاتورية حقيقة على مواقع التواصل الإجتماعي؟ صار الإهتمام بـ ” عَدّاد الجامات” أكثر من المضمون نفسه ، لقد تحوّل الأمر إلى ما يشبه الضغط على الرواد، لقد عبّر عن هذا الضغط مسؤول “انستغرام” آدم موسيري” في حديثه عن أسباب التوجه نحو حجب ( اللايكات) على المنصة التفاعلية عندما قال:” نريد ألا يهتم الناس كثيرا بعدد اللايكات التي يحصلون عليها على “انستغرام” وأن يهتموا أكثر بقضاء وقت أطول مع الناس المهمين في حياتهم” .
ما يطلبه الجمهور.. و المتلاعبون بالعقول!
على مستوى المشهد السمعي البصري ممثلا في القنوات التلفزيوينة والمنصات الرقمية التي تنتج مضمونا سمعيا بصريا يصير الحديث عن ديكتاتورية الجامات أكثر شراسة، غالبية القنوات والمنصات تنشغل بعدّاد الجامات أيضا أكثر من انشغالها في الغالب بمستوى النقاش وهوية الضيوف وجدية المواضيع في علاقتها بالدور المُفترض من وسائل الإعلام كمنابر لتنوير الرأي العام و تشكيل الوعي و بناء الإنسان لا المساهمة في تَسفِيهِهِ و تتَفِيهِهِ. في هذا الأمر بالذات يقفز إلى السطح عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو ( 1930-2002) ، الذي ظل يُوَجِّه انتقادات لاذعة لعمل التلفزيون الفرنسي بالأخص ما تعلق بالبرامج الحوارية و برامج التوك شو و تلفزيون الواقع في علاقة هذه الإنتقادات بما أسماه في كتابه ” حول التلفزيون ” ( 1996) بـ ” البحث السخيف عن الإثارة واللهث وراء الإقبال الجماهيري لرفع نسب المشاهدة و تشويه الذوق العام وهذا للظفر بحصة أكبر من سوق الإعلانات دون أي اعتبار للمسائل الأخلاقية …” لقد خلقت الانتقادات التي ظل بورديو يوجِهُها لآليات عمل التلفزيون خُصومات وعَدَاوات وسط الصحفيين وبارونات التلفزيونات الفرنسية عندما وصفهم بـ “المتلاعبون بالعقول” لأنه عَرّى انحرافات التلفزيون، إنه يقول أن مجرد «فكرة ما يطلبه الجمهور» جعلت من التلفزيون أداة خَطِرَة وعُرضة لشتى الانحرافات” .
سلطان السوق و سلطان الأوديمات !!
لكن ماذا عن برامج التوك شو والبرامج الحوارية؟ إن بورديو يرى أنها ” تُروِّج لخطاب هزيل و تُقصِى كل ما هو جاد ومفيد ” بل ترى التلفزيونات في البرامج المفيدة أن ” الناس يضجرون منها ” أي لا تحقق نسب مشاهدة عالية . إن ” عقلية الأوديمات” ( Audimat) كما يصفها بورديو هي التي صارت ” تفرض شروطها على البرامج وتحدد اولوياتها ومصيرها” لقد عززت هذه العقلية ” ثقافة الـفاست فود و أنتجت مفكرين سريعين (fast thinkers) تتم دعوتهم لهذه البرامج ” . طبعا الوضع ليس مختلفا عندنا ، وواضح أن القنوات التلفزيونية و معها المنصات الرقيمة على رأسها يوتيوب تخضع لنفس الشروط ، أي العمل وفق منطق ” ما يطلبه الجمهور” بالشكل الذي يحقق لها نسب مشاهدة عالية وإحداث البوز ( Buzz ) ، لقد شاهدنا في هذا رمضان برامج لتلفزيون الواقع و برامج توك شو غُيٍّبَ فيها النقاش الجاد و ارتكزت الدعوات الموجهة للضيوف على أولئك الذين يصنعون البوز على حساباتهم على انستغرام أو فايسبوك ، بدعوى أن الجمهور يريد هذا .. من قال ذلك؟ و بناء على أي إحصاءات و بيانات تم استنتاج هذا؟
زِرُ ( الجام) .. تأثُر بالقطيع!
المأساة أن غالبية الذين صاروا ( وقود) بلاطوهات التلفزيونات من الضيوف أملا في ( إشعال ) نسب المشاهدة و زيادة عدد الجامات على صفحات تلك القنوات على الفايسبوك أو انستغرام، هم أشخاص يشبهون الكثير من رواد السوشيل ميديا الذين ينشُرُ و يَبُثُ يعضُهم مضامين مزيفة ، هناك دراسات و أرقام تعزز ذللك، فحسب مَرْصَد ” سوسيو فيزيون” ( Sociovision Observatoire) التابع لمجموعة ( Ifop ) بفرنسا ، هناك 44 % من الرواد يؤكدون أو يٌقِرّون أنهم يتصرفون بشكل مختلف في الفضاء الإفتراضي عن حياتهم الطبيعة اليومية ، إنهم أشخاص مزيفون!! يرتفع هذا الرقم إلى 61% عند الفئة العمرية ( 15-25 سنة) ، يؤثرون على المتابعين بهويات مزدوجة تجلب لهم آلاف وملايين الجامات!!
لا يتوقف الأمر في خطورته عند الهويات المزيفة لمن يصنعون ( البوز) أو تتنافس البلاتوهات لاستقبالهم، بل الأمر يتعداه إلى المعنى الذي قد يتخذه زِرُ ( الجام ) عند الرواد، أي أهميته في عقولهم كرمز للقَبول الإجتماعي والاندماج مع المجموعة و الشعور باعتراف الآخر بقيمتك، ففي دراسة أمريكية حول ” سلطة الجامات” اشتغلت على نتائجها صَحَفِية في “نيويورك تاميز” العام 2016، تبَيَن أن زِّرَ (الجامات) يؤثر على دماغ المراهقين و يلعب دورا مهما في تحديد ما هو جيد و ما هو سيء ، بل إن الصور المنشورة التي تحقق نسب مشاهدة كبيرة تخلق نشاطا لافتا في مناطق الخلايا العصبية بالدماغ لها صلة بالنظرة إلى الأشياء والعالم و التقليد و التأثر، ما ينتج عنه الكثير من (الخسائر)!! يعتقد كثير من هؤلاء المراهقين أنهم ملزمون بالضغط على ( زر الجام) للإنخراط مع الكم الهائل أحيانا من ( المُجَمجِمِين )!! إنه سلوك القطيع!
* أستغرام أحد منصات التواصل الاجتماعي التي تُعنى بتحرير ورفع الصور ومقاطع الفيديو من خلال منشورات يتمّ نشرها عبر حساب المُستخدِم . يسمح الإنستغرام بمُشاركة تلك الصور ومقاطع الفيديو بسهولة عبر منصات التواصل الاجتماعي الأخرى كالفيسبوك وتويتر.